الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
وذكروا في قتله أسباباً من أشهرها: أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق، كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه، أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فبقي في نفسها منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها، استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله، وجاء برأسه ودمه في طشت إلى عندها، فيقال: إنها هلكت من فورها وساعتها. وقيل: بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك، فتمنع عليها الملك، ثم أجابها إلى ذلك، فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طشت. وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ حيث قال: أنبأنا يعقوب الكوفي، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رأى زكريا في السماء، فسلم عليه وقال له: يا أبا يحيى خبرني عن قتلك كيف كان، ولم قتلك بنو إسرائيل؟ قال: يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه، وكان أجملهم وأصبحهم وجها، وكان كما قال الله تعالى {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} وكان لا يحتاج إلى النساء، فهوته امرأة ملك بني إسرائيل، وكانت بغية، فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها، فأجمعت على قتل يحيى، ولهم عيد يجتمعون في كل عام، وكانت سنة الملك أن يوعد ولا يخلف ولا يكذب. قال: فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته، وكان بها معجباً، ولم تكن تفعله فيما مضى، فلما أن شيعته قال الملك: سليني فما سألتني شيئاً إلا أعطيتك، قالت: أريد دم يحيى بن زكريا، قال لها: سليني غيره. قالت: هو ذاك. قال: هو لك. قال: فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي، وأنا إلى جانبه أصلي، قال: فذبح في طشت وحمل رأسه ودمه إليها. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فما بلغ من صبرك)). قال: ما انفتلت من صلاتي. قال: فلما حمل رأسه إليها، فوضع بين يديها، فلما أمسوا خسف الله بالملك، وأهل بيته وحشمه، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل: قد غضب إله زكريا لزكريا، فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا. (ج/ص: 2 /65) قال: فخرجوا في طلبي ليقتلوني، وجاءني النذير فهربت منهم، وإبليس أمامهم يدلهم علي، فلما تخوفت أن لا أعجزهم، عرضت لي شجرة فنادتني وقالت: إليّ إليّ، وانصدعت لي ودخلت فيها. قال: وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي، والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجاً من الشجرة، وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس: أما رأيتموه دخل هذه الشجرة، هذا طرف ردائه دخلها بسحره، فقالوا: نحرق هذه الشجرة، فقال إبليس: شقوه بالمنشار شقاً. قال: فشققت مع الشجرة بالمنشار، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل وجدت له مساً أو وجعاً)). قال: لا، إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها. هذا سياق غريب جدا، وحديث عجيب، ورفعه منكر، وفيه ما ينكر على كل حال، ولم ير في شيء من أحاديث الإسراء ذكر زكريا عليه السلام إلا في هذا الحديث. وإنما المحفوظ في بعض ألفاظ الصحيح في حديث الإسراء: فمررت بابني الخالة يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة. فجاء على قول الجمهور كما هو ظاهر الحديث، فإن أم يحيى أشياع بنت عمران، أخت مريم بنت عمران. وقيل: بل أشياع وهي امرأة زكريا أم يحيى، هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم، فيكون يحيى ابن خالة مريم، فالله أعلم. ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا، هل كان في المسجد الأقصى أم بغيره على قولين؟ فقال الثوري، عن الأعمش، عن شمر بن عطية قال: قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبيا، منهم يحيى بن زكريا عليه السلام. وقال أبو عبيد القاسم ابن سلام، حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قدم بخت نصر دمشق، فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي، فسأل عنه فأخبروه، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن. وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهو يقتضي أنه قتل بدمشق، وإن قصة بخت نصر كانت بعد المسيح، كما قاله عطاء، والحسن البصري، فالله أعلم. وروى الحافظ ابن عساكر، من طريق الوليد بن مسلم، عن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبلة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير، وفي رواية كأنما قتل الساعة، وذكر في بناء مسجد دمشق، أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة فالله أعلم. (ج/ص: 2/66) وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصى في فضائل الأقصى من طريق العباس بن صبح، عن مروان، عن سعيد بن عبد العزيز، عن قاسم مولى معاوية قال: كان ملك هذه المدينة - يعني دمشق - هداد بن هداد وكان قد زوجه ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا، وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق، وهو الصاغة العتيقة. قال: وكان قد حلف بطلاقها ثلاثا، ثم أنه أراد مراجعتها، فاستفتى يحيى بن زكريا فقال: لا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك، فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا، وذلك بإشارة أمها، فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك، وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد جيرون من أتاه برأسه في صينية، فجعل الرأس يقول له: لا تحل له، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها، وأتت به أمها وهو يقول كذلك، فلما تمثلت بين يدي أمها خسف بها إلى قدميها، ثم إلى حقويها، وجعلت أمها تولول والجواري يصرخن، ويلطمن وجوههن، ثم خسف بها إلى منكبيها، فأمرت أمها السياف أن يضرب عنقها، لتتسلى برأسها ففعل، فلفظت الأرض جثتها عند ذلك، ووقعوا في الذل والفناء. ولم يزل دم يحيى يفور، حتى قدم بخت نصر فقتل عليه خمسة وسبعين ألفا. قال سعيد بن عبد العزيز: وهي دم كل نبي، ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال: أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله، فسكن فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس، فتبعهم إليها فقتل خلقاً كثيراً لا يحصون كثرة، وسبا منهم، ثم رجع عنهم. قال الله تعالى في سورة آل عمران، التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية، منها في الرد على النصارى عليهم لعائن الله، الذين زعموا أن لله ولداً تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الأقانيم، ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة، وهم: الذات المقدسة، وعيسى، ومريم، على اختلاف فرقهم. فأنزل الله عز وجل صدر هذه السورة، بين فيها أن عيسى عبد من عباد الله، خلقه وصوره في الرحم كما صور غيره من المخلوقات، وأنه خلقه من غير أب، كما خلق آدم من غير أب ولا أم، وقال له: كن فكان، سبحانه وتعالى، وبين أصل ميلاد أمه مريم، وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى، وكذلك بسط ذلك في سورة مريم، كما سنتكلم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته. (ج/ص: 2/67) يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام، والخلص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته، ثم خصص فقال: {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} فدخل فيهم بنو إسماعيل، وبنو إسحاق. ثم ذكر فضل هذا البيت الطاهر الطيب وهم آل عمران، والمراد بعمران هذا: والد مريم عليها السلام. وقال محمد بن إسحاق: وهو عمران بن باشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن احريق بن موثم بن عزازيا بن امصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن ايشا بن ايان بن رحبعام بن سليمان بن داود. وقال أبو القاسم ابن عساكر: مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليود بن اخنر بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن ايبود بن زريابيل بن شالتال بن يوحينا بن برشا بن امون بن ميشا بن حزقا بن احاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن ايشا بن ايبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام، وفيه مخالفة كما ذكره محمد بن إسحاق. ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام. وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه، وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم اشياع في قول الجمهور، وقيل: زوج خالتها اشياع فالله أعلم. وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أن أم مريم كانت لا تحبل، فرأت يوماً طائراً يزق فرخا له، فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محررا أي حبيسا في خدمة بيت المقدس، قالوا: فحاضت من فورها، فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام، وقولها: وجاء في حديث الحسن، عن سمرة مرفوعا: ((كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه)). رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي، وجاء في بعض ألفاظه ((ويدمى)) بدل ((ويسمى)) وصححه بعضهم، والله أعلم. وقولها: فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها)). ثم يقول أبو هريرة: واقرؤا إن شئتم أخرجاه من حديث عبد الرزاق. ورواه ابن جرير، عن أحمد بن الفرج، عن بقية، عن عبد الله بن الزبيدي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال أحمد أيضاً: حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بإصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى)). تفرد به من هذا الوجه. ورواه مسلم، عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضينه، إلا ما كان من مريم وابنها، ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذلك حين يلكزه الشيطان بحضينه)). وهذا على شرط مسلم، ولم يخرجه من هذا الوجه. ورواه قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين، إلا عيسى بن مريم ومريم)). ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بأصل الحديث. (ج/ص: 2/69) وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك حدثنا المغيرة - هو ابن عبد الله الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب)). وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه. وقوله: والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها، وكفالة مثلها في صغرها، ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل أن زوجته أختها أو خالتها على القولين، فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم. قال الله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي: بسبب غلبه لهم في القرعة، كما قال تعالى: قالوا: وذلك أن كلاً منهم ألقى قلمه معروفا به، ثم حملوها ووضعوها في موضع، وأمروا غلاما لم يبلغ الحنث، فأخرج واحدا منها، وظهر قلم زكريا عليه السلام، فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية، وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر، فأيهم جرى قلمه على خلاف جريه في الماء فهو الغالب، ففعلوا فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جرية الماء، وسارت أقلامهم مع الماء. ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعدا فهو الغالب، ففعلوا فكان زكريا هو الغالب لهم، فكفلها إذ كان أحق بها شرعاً وقدرا لوجوه عديدة. قال الله تعالى: قال المفسرون: اتخذ لها زكريا مكاناً شريفاً من المسجد لا يدخله سواه، فكانت تعبد الله فيه، وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت، إذا جاءت نوبتها، وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها، حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل، واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة، والصفات الشريفة. حتى أنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقاً غريباً في غير أوانه، فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيسألها فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه، وإن كان قد أسن وكبر، قال: يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء عالمي زمانها، بأن اختارها لإيجاد ولد منها من غير أب، وبشرت بأن يكون نبياً شريفاً وأمرت بكثرة العبادة، والقنوت، والسجود، والركوع، لتكون أهلاً لهذه الكرامة، ولتقوم بشكر هذه النعمة، فيقال: إنها كانت تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها، رضي الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها. فقول الملائكة: وكقوله عن بني إسرائيل: ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام أفضل من موسى، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل منهما، وكذلك هذه الأمة أفضل من سائر الأمم قبلها، وأكثر عدداً وأفضل علماً وأزكى عملاً من بني إسرائيل وغيرهم. ويحتمل أن يكون قوله: وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره، عن أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال، وليس في النساء نبية، فيكون أعلى مقامات مريم، كما قال الله تعالى: وقد جاء ذكرها مقروناً مع آسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، رضي الله عنهن وأرضاهن. وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من طرق عديدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد)). وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)). ورواه الترمذي عن أبي بكر بن زانجويه، عن عبد الرزاق به وصححه. ورواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي وابن عساكر من طريق تميم بن زياد، كلاهما عن أبي جعفر الرازي، عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد رسول الله)). وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب قال: كان أبو هريرة يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه لزوج في ذات يده)). قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيراً قط. وقد رواه مسلم في صحيحه، عن محمد بن رافع، وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به. وقال أحمد: حدثنا زيد بن الجباب، حدثني موسى بن علي، سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرأفه بزوج على قلة ذات يده)). قال أبو هريرة: وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابنة عمران لم تركب الإبل، تفرد به، وهو على شرط الصحيح. ولهذا الحديث طرق أخر عن أبي هريرة. (ج/ص: 2/72) وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا زهير، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربع خطوط فقال: ((أتدرون ما هذا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)). ورواه النسائي من طرق، عن داود بن أبي هند، وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث: حدثنا يحيى بن حاتم العسكري، نبأنا بشر بن مهران بن حمدان، حدثنا محمد بن دينار، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران)). وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا وهب بن منبه، حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة أنها قالت لفاطمة: أرأيت حين أكبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت ثم ضحكت؟ قالت: أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أكببت عليه فأخبرني أني أسرع أهله لحوقاً به وأني سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران فضحكت. وأصل هذا الحديث في الصحيح، وهذا إسناد على شرط مسلم وفيه: أنهما أفضل الأربع المذكورات. وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن يزيد - هو ابن أبي زياد - عن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، إلا ما كان من مريم بنت عمران)). إسناد حسن، وصححه الترمذي ولم يخرجوه. وقد روي نحوه من حديث علي بن أبي طالب، ولكن في إسناده ضعف. والمقصود أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الأربع، ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة، ويحتمل أن يكونا على السواء في الفضيلة، لكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الأول. فقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أنبأنا أبو الحسن بن الفرا، وأبو غالب، وأبو عبد الله ابنا البنا، قالوا: أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أحمد بن سليمان، حدثنا الزبير -هو ابن بكار - حدثنا محمد بن الحسن، عن عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن كريم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية امرأة فرعون)) فإن كان هذا اللفظ محفوظاً بثم التي للترتيب، فهو مبين لأحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء، وتقدم على ما تقدم من الألفاظ التي وردت بواو العطف التي لا تقتضي الترتيب ولا تنفيه، والله أعلم. (ج/ص: 2/ 73) وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازي، عن داود الجعفري، عن عبد العزيز بن محمد - وهو الدراوردي - عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس مرفوعاً، فذكره بواو العطف، لا بثم الترتيبية، فخالفه إسناداً ومتناً، فالله أعلم. فأما الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). وهكذا الحديث الذي رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). فإنه حديث صحيح كما ترى، اتفق الشيخان على إخراجه ولفظه يقتضي حصر الكمال في النساء في مريم وآسية، ولعل المراد بذلك في زمانهما، فإن كلا منهما كفلت نبياً في حال صغره، فآسية كفلت موسى الكليم، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله، فلا ينفي كمال غيرهما في هذه الأمة كخديجة، وفاطمة فخديجة خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة خمسة عشر سنة، وبعدها أزيد من عشر سنين، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها رضي الله عنها وأرضاها. وأما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها خصت بمزيد فضيلة على أخواتها، لأنها أصيبت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية أخواتها متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يتزوج بكراً غيرها، ولا يعرف في سائر النساء في هذه الأمة بل ولا في غيرها أعلم منها ولا أفهم، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فأنزل براءتها من فوق سبع سموات. وقد عمرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من خمسين سنة، تبلغ عنه القرآن والسنة، وتفتي المسلمين، وتصلح بين المختلفين، وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين، في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين، والأحسن الوقف فيهما، رضي الله عنهما وما ذاك إلا لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ((وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). يحتمل أن يكون عاماً بالنسبة إلى المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاماً بالنسبة إلى ما عدى المذكورات، والله أعلم. (ج/ص: 2/ 74) والمقصود ههنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام، فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمي زمانها، ويجوز أن يكون تفضيلها على النساء مطلقاً، كما قدمنا. وقد ورد في حديث أنها تكون من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، هي وآسية بنت مزاحم. وقد ذكرنا في التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك، واستأنس بقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] قال: فالثيب آسية، ومن الأبكار مريم بنت عمران، وقد ذكرناه في آخر سورة التحريم، فالله أعلم. قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثنا أبي، أنبأنا عمي الحسين، حدثنا يونس بن نفيع، عن سعد بن جنادة - هو العوفي - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وامرأة فرعون، وأخت موسى)). وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن عرعرة، حدثنا عبد النور بن عبد الله، حدثنا يونس بن شعيب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشعرت أن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكلثم أخت موسى)). رواه ابن جعفر العقيلي من حديث عبد النور به، وزاد: فقلت هنيئاً لك يا رسول الله. ثم قال العقيلي: وليس بمحفوظ. وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن يعلى بن المغيرة، عن ابن أبي داود قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه، فقال لها: ((بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة: مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون)). قالت: وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله؟ قال: ((نعم)). قالت: بالرفاء والبنين. وروى ابن عساكر من حديث محمد بن زكريا الغلابي: حدثنا العباس بن بكار، حدثنا أبو بكر الهزلي، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة، وهي في مرض الموت فقال: ((يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فاقرئهن مني السلام)). قالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال: ((لا، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكلثم أخت موسى)). وروى ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد: حدثنا محمد بن صالح بن عمر، عن الضحاك ومجاهد، عن ابن عمر قال: نزل جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أرسل به، وجلس يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت خديجة فقال جبريل: من هذه يا محمد؟ قال: ((هذه صديقة أمتي)) قال جبريل: معي إليها رسالة من الرب عز وجل يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب، لا نصب فيه ولا صخب. (ج/ص: 2/ 75) قالت: الله السلام، ومنه السلام، والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله ما ذلك البيت الذي من قصب؟ قال: ((لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران، وبيت آسية بنت مزاحم، وهما من أزواجي يوم القيامة)). وأصل السلام على خديجة من الله، وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه، ولا وصب، في الصحيح. ولكن هذا السياق بهذه الزيادات غريب جداً، وكل من هذه الأحاديث في أسانيدها نظر. وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة الدمشقي: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية، عن صفوان بن عمرو، عن خالد بن معدان، عن كعب الأحبار أن معاوية سأله عن الصخرة، يعني: صخرة بيت المقدس، فقال: الصخرة على نخلة، والنخلة على نهر من أنهار الجنة، وتحت النخلة مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، ينظمان سموط أهل الجنة حتى تقوم الساعة. ثم رواه من طريق إسماعيل، عن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن مسعود، عن عبد الرحمن، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وهذا منكر من هذا الوجه، بل هو موضوع، قد رواه أبو زرعة، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن مسعود بن عبد الرحمن، عن ابن عابد أن معاوية سأل كعباً عن صخرة بيت المقدس فذكره. قال الحافظ بن عساكر: وكونه من كلام كعب الأحبار أشبه. قلت: وكلام كعب الأحبار هذا، إنما تلقاه من الإسرائيليات التي منها ما هو مكذوب مفتعل، وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم، وهذا منه، والله أعلم. (ج/ص: 2/ 76) ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا، التي هي كالمقدمة لها والتوطئة قبلها، كما ذكر في سورة آل عمران، قرن بينهما في سياق واحد، وكما قال في سورة الأنبياء: وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة، تخدم بيت المقدس، وأنه كفلها زوج أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام، وأنه اتخذ لها محراباً وهو المكان الشريف من المسجد، لا يدخله أحد عليها سواه. وأنها لما بلغت، اجتهدت في العبادة، فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات، وظهر عليها من الأحوال ما غبطها به زكريا عليه السلام. وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها، وبأنه سيهب لها ولداً زكياً يكون نبياً كريماً، طاهراً، مكرماً، مؤيداً بالمعجزات، فتعجبت من وجود ولد من غير والد، لأنها لا زوج، لها ولا هي ممن تتزوج، فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون. فاستكانت لذلك، وأنابت، وسلمت لأمر الله، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه، لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبر، ولا تعقل، وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها، أو لحاجة ضرورية، لا بد منها من استقاء ماء، أو تحصيل غذاء. فبينما هي يوماً قد خرجت لبعض شؤونها {انْتَبَذَتْ} أي: انفردت وحدها شرقي المسجد الأقصى، إذ بعث الله إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام قال أبو العالية: علمت أن التقي ذو نهية، وهذا يرد قول من زعم أنه كان في بني إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق، اسمه: تقي، فإن هذا قول باطل بلا دليل، وهو من أسخف الأقوال. (ج/ص: 2/ 77) وقوله: وقوله: {وَرَحْمَةً مِنَّا} أي: نرحم به العباد، بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له، وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة، والأولاد، والشركاء، والنظراء، والأضداد، والأنداد. وقوله: ويحتمل أن يكون قوله: فذكر غير واحد من السلف: أن جبريل نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة إلى فرجها، فحملت من فورها، كما تحمل المرأة عند جماع بعلها. ومن قال: أنه نفخ في فمها، أو أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها، فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن. فإن هذا السياق يدل على أن الذي أرسل إليها ملك من الملائكة، وهو جبريل عليه السلام، وأنه إنما نفخ فيها، ولم يواجه الملك الفرج، بل نفخ في جيبها، فنزلت النفخة إلى فرجها، فانسلكت فيه، كما قال تعالى: ولهذا قال تعال: {فَحَمَلَتْهُ} أي: حملت ولدها فذكر غير واحد من السلف، منهم وهب بن منبه أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل، كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له: يوسف بن يعقوب النجار، وكان ابن خالها، فجعل يتعجب من ذلك عجباً شديداً، وذلك لما يعلم من ديانتها، ونزاهتها، وعبادتها، وهو مع ذلك يراها حبلى، وليس لها زوج. فعرض لها ذات يوم في الكلام، فقال: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم. فمن خلق الزرع الأول؟ ثم قال: فهل يكون شجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت: نعم. فمن خلق الشجر الأول؟ ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، قال لها: فأخبريني خبرك؟ فقالت: إن الله بشرني وذكر السدي بإسناده عن الصحابة: أن مريم دخلت يوماً على أختها، فقالت لها أختها: أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم: وشعرت أيضا أني حبلى، فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك قوله: ومعنى السجود ههنا: الخضوع والتعظيم كالسجود عند المواجهة للسلام، كما كان في شرع من قبلنا، وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم. وقال أبو القاسم: قال مالك: بلغني أن عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا ابنا خالة، وكان حملهما جميعاً معاً، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إن أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام، لأن الله تعالى جعله يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص. رواه ابن أبي حاتم. وروي عن مجاهد قال: قالت مريم: كنت إذا خلوت حدثني وكلمني، وإذا كنت بين الناس سبح في بطني. ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر، كما تحمل النساء ويضعن لميقات حملهن ووضعهن، إذ لو كان خلاف ذلك لذكر. وعن ابن عباس وعكرمة أنها حملت به ثمانية أشهر. وعن ابن عباس ما هو إلا أن حملت به فوضعته في الحال، و هذا الظاهر، لأن الله تعالى ذكر الانتباذ بعد الحمل، قال بعضهم: حملت به تسع ساعات، واستأنسوا لذلك بقوله: وكقوله: ومعلوم أن بين كل حالين أربعين يوماً كما ثبت في الحديث المتفق عليه. قال محمد بن إسحاق: شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا. (ج/ص: 2/ 79) قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم، واعتزلتهم، وانتبذت مكاناً قصياً. وقوله: فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت إن لو كانت ماتت قبل هذا الحال، أو كانت {نَسْياً مَنْسِيّاً} أي: لم تخلق بالكلية. وقوله: وهكذا قال سعيد بن جبير، وعمرو بن ميمون، والضحاك، والسدي، وقتادة، وقال مجاهد، والحسن، وابن زيد، وسعيد بن جبير، في رواية هو ابنها عيسى، واختاره ابن جرير. وقوله: وعن الحسن، والربيع بن أنس، وابن أسلم، وغيرهم، أنه ابنها، والصحيح الأول لقوله: ويحتمل أنها كانت نخلة، لكنها لم تكن مثمرة إذ ذاك، لأن ميلاده كان في زمن الشتاء، وليس ذاك وقت ثمر، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا شيبان، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأنصاري، عن عروة بن رويم، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس من الشجر شيء يلقح غيرها)). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران)). وكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن شيبان بن فروخ، عن مسروق بن سعيد، وفي رواية مسرور بن سعد، والصحيح مسرور بن سعيد التميمي، أورد له ابن عدي هذا الحديث عن الأوزاعي به، ثم قال: وهو منكر الحديث، ولم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن الأوزاعي المناكير الكثيرة التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها. وقوله: وقوله تعالى: وفي هذا الذي قالوه نظر، مع أنه كلام ينقض أوله آخره، وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملت بنفسها، وأتت به قومها وهي تحمله. قال ابن عباس: وذلك بعد ما تعالت من نفاسها بعد أربعين يوماً. والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهرون نسباً، فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهرون ضربت بالدف يوم نجا الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وملأه، فاعتقد أن هذه هي هذه، وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح، مع نص القرآن كما قررناه في التفسير مطولاً، ولله الحمد والمنة. (ج/ص: 2/ 81) وقد ورد الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هرون، وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها، ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها والله أعلم. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت أبي يذكره عن سماك، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤن: قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم)). وكذا رواه مسلم، والنسائي، والترمذي من حديث عبد الله بن إدريس، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وفي رواية: ((ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم)). وذكر قتادة وغيره أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهرون، حتى قيل إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير، منهم ممن يسمى بهرون أربعون ألفاً، فالله أعلم. والمقصود أنهم قالوا: فذكر ابن جرير في تاريخه أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله، ففر منهم فلحقوه، وقد انشقت له الشجرة فدخلها، وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشروه فيها كما قدمنا. ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف بن يعقوب النجار، فلما ضاق الحال وانحصر المجال، وامتنع المقال، عظم التوكل على ذي الجلال، ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال. {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي: خاطبوه وكلموه، فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه. فعندها {قَالُوا} من كان منهم جباراً شقياً كما قال تعالى: ولهذا قال: ثم قال: وهذه الأماكن الثلاثة التي تقدم الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام، ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية، وبين أمره ووضحه وشرحه قال: كما قال تعالى بعد ذكر قصته وما كان من أمره في آل عمران: ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكباً، يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم، ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم، وهم: العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة، فجعلوا يناظرون في أمر المسيح، فأنزل الله صدر سورة آل عمران في ذلك، وبين أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أمه من قبله، وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه، فلما رأوا عينيها وأذنيها نكصوا وامتنعوا عن المباهلة، وعدلوا إلى المسالمة والموادعة. وقال قائلهم: وهو العاقب عبد المسيح: يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلاَّ إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فطلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يضرب عليهم جزية، وأن يبعث معهم رجلاً أميناً، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، وقد بينا ذلك في تفسير آل عمران، وسيأتي بسط هذه القضية في السيرة النبوية، إن شاء الله تعالى وبه الثقة. والمقصود أن الله تعالى بين أمر المسيح قال لرسوله: وقوله: قال الله تعالى: وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهؤلاء هم الناجون المثابون المؤيدون المنصورون، ومن خالفهم في شيء من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون، وقد توعدهم العلي العظيم الحكيم العليم بقوله: قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، أنبأنا الوليد، حدثنا الأوزاعي، حدثني عمير بن هانئ، حدثني جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)). (ج/ص: 2/ 84) قال الوليد: فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عمير، عن جنادة وزاد: ((من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء)). وقد رواه مسلم عن داود بن رشيد، عن الوليد بن مسلم، عن ابن جابر به. ومن طريق أخرى عن الأوزاعي به.
|